فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (30- 31):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [30- 31].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ} وهو ما رقّ من الديباج: {وَإِسْتَبْرَقٍ} وهو ما كثف منه: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} أي: السرر على هيئة المتنعمين: {نِعْمَ الثَّوَابُ} أي: الجنات المذكورة: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي: متكأً. وقيل المرتفق المنزل والمستقر، لآية: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] وآية {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 76].

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [32].
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} أي: للمؤمن والكافر: {رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} أي: بين الجنتين، أو بين النخيل والأعناب: {زَرْعاً} أي: فحصل منهما الفواكه والأقوات، فكانتا منشأ الثروة والجاه.

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [33].
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أي: ثمرها كاملة: {وَلَمْ تَظْلِمْ} أي: لم تنقص: {مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا} أي: فيما بينهما: {نَهَراً} أي: يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما، تتميماً لحسنهما.

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [34].
{وَكَانَ لَهُ} أي: لصاحب الجنتين: {ثَمَرٌ} أي: أنواع من المال غير الجنتين. من ثَمَّرَ ماله إذا كَثَّره: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: يراجعه الكلام، تعييراً له بالفقر، وفخراً عليه بالمال والجاه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي: أنصاراً وحشماً.

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [35].
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} أي: بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها. كما يدل عليه السياق ومحاورته له. وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما مر، إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى، وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة. قيل: الإضافة تأتي لمعنى اللام. فالمراد بها العموم والاستغراق. أي: كل ما هو جنة له يتمتع بها. فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة. وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه: {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي: بما يوجب سلب النعمة، وهو الكفر والعجب. وفي العناية ظُلْمُهُ لها إِما بمعنى تنقيصها وضررها، لتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك، أو بمعنى وضع الشيء في غير موضعه. لأن مقتضى ما شاهده التواضع المبكي، لا العجب بها وظنها أنها لا تبيد أبداً. والكفر بإنكار البعث كما يدل عليه قوله: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ} أي: تهلك وتفنى: {هَذِهِ} أي: الجنة: {أَبَداً} لاعتقاده أبدية الدهر، وأن لا كون سوى ما تقع عليه مشاعره. ولذا قال:

.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} [36].
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي: كائنةً، وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} إقسام منه على أنه، إن رد إلى ربه، على سبيل الفرض والتقدير، كما يزعم صاحبه، ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا، تطمعاً وتمنياً على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده. وإنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله. وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه. كقوله: {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. و{مُنْقَلَباً} أي: مرجعاً وعاقبة. أفاده الزمخشريّ.
قال المهايمي: فكفر بالقول بقدم العالم ونفي حشر الأجساد واعتقد عكس الجزاء إذ قال: {لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته. وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة. وبعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية. ثم بين تعالى ما أجابه صاحبه المؤمن واعظاً له، وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار، بقوله:

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [37].
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} أي: الذي عيّره بالفقر، تعييرا له على كفره: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: يراجعه كلام التعيير على الكفر، محاورته كلام التعيير على الفقر، في ضمن النكر عليه: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: يجعل التراب نباتاً ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي: عدّلك وكمّلك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال. قال أبو السعود: والتعبير عنه تعالى بالموصول، للإشعار بعليّة ما في حيز الصلة، لإنكار الكفر. والتلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، وكما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]. قال ابن كثير: أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه. فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد. وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء. من المخلوقات، لأنه بمثابته. فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء. ولهذا قال صاحبه المؤمن:

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [38].
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل اعترف لله بالوحدانية والربوبية. ولا أشرك به أحداً معه من العلويات والسفليات. وقد قرأ ابن عامر: {لكنَّا} بإثبات الألف وصلاً ووقفاً. الباقون بحذفها وصلاً، وبإثباتها وقفاً، فالوقف وفاق. وأصله لكن أنا. وقرئ كذلك فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار لكن ثم ألحق الألف إجراء للوصل مجرى الوقف. لأن الوقف على أنا بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل لكن أنا وبغيرها يلزم الإلباس بينه وبين لكن المشددة. قال الزمخشري: ونحوه قول القائل:
وتَرْمِيْنَني بِالطرف أي: أَنْتَ مُذْنِبٌ** وتقلينني لكنَّ إِيَّاكِ لا أّقْلِي

أي لكن أنا لا أقليك. ويقرب منه قول الآخر:
ولو كنتَ ضبيا عرفتَ قَرَابتي** ولكنّ زَنجيٌّ عظيم المَشَافِرِ

أي ولكنك. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (39- 41):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} [39- 41].
{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي: هلا قلت عند دخولها ذلك. قال الزمخشري: يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل، على أنها خبر مبتدأ محذوف. تقديره الأمر ما شاء الله أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى أي: شيء شاء الله كان ونظيرها في حذف الجواب لو في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31]، والمعنى: هلا قلت عند دخولها، والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله، اعترافاً بأنها وكل خير فيها، إنما حصل بمشيئة الله وفضله. وأن أمرها بيده. إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها. وقلت: {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} إقراراً بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها، إنما هو بمعونته وتأييده. إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده، إلا بالله تعالى. والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة، إسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر، بقوله:
{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ} أي: في الدنيا أيضاً: {خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً} أي: مقداراً قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية: {مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي: تراباً أملس لا تثبت فيها قدم، لملاستها {أَوْ} يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن: {يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} أي: غائراً في الأرض: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي: حيلة تدركه بها، بالحفر أو بغيره.
تنبيه:
كل من قوله تعالى: {إنْ تَرَنِ} وقوله: {أَنْ يُؤْتِيَنِ} رسم بدون ياء. لأنها من ياءات الزوائد. وأما في النطق، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها.

.تفسير الآية رقم (42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [42].
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشري: أحيط به عبارة عن إهلاكه. وأوصله من من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66].
ومثله قولهم: أتى عليه إذا أهلكه. من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم. يعني أنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن أتى عليهم بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي: فعيّر نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشري: تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر. لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن. كما كني عن ذلك بعضِّ الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدّي تعديته بعلى كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي: في عمارتها. فيكون ظرفاً لغواً. ويجوز كونه ظرفاً مستقرَّاً متعلقه خاص، وهو حال. أي: متحسراً. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه- كما قال الراغب- الغم على ما فات: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي: ساقطة عليها. والعروش جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه الشيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيداً زلقاً: {وَيَقُولُ} عطف على يقلب: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي: من الأوثان. وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه.

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} [43].
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} أي: منعة وقوم: {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي: ممتنعاً بنفسه وقوته عن انتقام الله.

.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [44].
{هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} أي: قي ذلك المقام وتلك الحالة التي وقع فيها الإهلاك. الولاية بفتح الواو أي: النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره. فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ} لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدَّق قوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف: 40] ويعضده قوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} أي: لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ الولاية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي: هنالك السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر. يعني أن: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 42]، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعاً مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 84].
وكقوله إخباراً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90- 91]، أو هنالك إشارة إلى الآخرة. أي: في تلك الدار الولاية لله. كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ويناسبه قوله:
{هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}. وهنالك على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم والولاية مبتدأ مؤخر. والوقف على منتصراً. وجوز بعضهم كون هنالك معمولاً لمنتصراً وإن الوقف عليه. أي: على هنالك وإن الولاية لله جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة. أي: وما كان منتصراً في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.
وأقول: هذا الثاني ركيك جدًّا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربيةً. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه. والحق قرئ بالرفع صفة للولاية وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر. وبالجر صفة للفظ الجلالة. {عقباً} قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعُشُر والعُشْر.
تنبيه:
يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوّز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعاراً للحال الغريبة، بتقدير اضرب مثلاً، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق. مصداقاً لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21].
ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا، ويختالون به بقوله سبحانه: